االخطبة الأولى :
([21]) الأعراف: 96. الحمد لله الذي عمر بتقواه قلوب المتقين وجعل تقواه سبيل النجاة للأولين والآخرين فمن رام الفوز والفلاح ورغب في السلامة والنجاح فعليه لزوم نهج المتقين وسلوك سبيل المحسنين أحمده تعالى وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخاتم النبيين بعثه بالهدى ودين الحق. . أما بعد. .
عباد الله اتقوا الله وأطيعوه التقوى وصية الله للأولين والآخرين كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾(
[1]) وهي من أول ما صاح به المرسلون في أقوامهم كما حكى الله عن رسله فقال: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ﴾(
[2]) وقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ﴾(
[3]) وقال: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ﴾(
[4]) وقال: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ﴾(
[5]). وكان نبينا r يوصي بها أصحابه في خطبه ومواعظه فيقول لهم: عليكم بتقوى الله وقد أمر الله سبحانه وتعالى بها نبيه r خاصة فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾(
[6]). والمطالع لكتاب الله سبحانه وتعالى يرى ويشهد بأنه سبحانه أمر بالتقوى كثيراً حتى إنني لأظن أن الله تبارك وتعالى لم يكرر الأمر بشيء من محبوباته كما كرر ورود الأمر بالتقوى.
وأنت أيها الأخ المبارك لا يكاد يمر عليك عدد من الأيام إلا ويطرق سمعك الأمر بتقوى الله تعالى إما في خطبة الجمعة أو غيرها من المواعظ أو في قراءتك للسنة النبوية أو القرآن ولاشك أن تكرر هذا الأمر وتردده وعناية الله به واتفاق الرسل في دعوة أقوامهم إليه يوجب أن يقف عنده المتدبرون ويتأمله العارفون فيكشفوا حقيقته وسر اعتناء الله ورسله به ويتعرفوا على فضل التقوى وصفات أهلها عسى أن يكونوا من المتقين الفائزين.
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن أصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه وتحميه فتقوى العبد لربه سبحانه هي أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية بفعل أوامره وترك نواهيه رغبة ورهبة قال عمر بن عبدالعزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله.
فتقوى الله أيها المؤمنون ليست شعوراً جامداً محبوساً في قلب العبد ليس له أثر ولا ثمر بل التقوى هي حارس قائم في أعماق الضمير يحمل المؤمن على امتثال أمر ربه وترك نهيه ،فكل حركة وسكون لابد فيها من تقوى الحي القيوم فتقوى الله تعالى يحتاجها العبد كلما تردد نفسه أو خفق قلبه أو نبض عرقه أو تحرك لحظُه يحتاجها الصغير والكبير والذكر والأنثى ولذلك كانت وصية النبي r لمعاذ بن جبل رضي الله عنه ولكل مؤمن ومؤمنة (( اتق الله حيثما كنت ))(
[7]) فاتقوا الله عباد الله والتزموا شرعه في العسر واليسر والفقر والغنى والمنشط والمكره والغيب والشهادة ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾(
[8]).
فتقوى الله يحتاجها كل أحد احتاجها المرسلون في تبليغ رسالة ربهم وتقوى الله يحتاجها العلماء والدعاة للوفاء بما أخذ عليهم من بذل الحق والصدع به والنصح للأئمة والأمة صغيرها وكبيرها ذكرها وأنثاها ليكونوا كما وصفهم الله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾(
[9]).
وبهذا يتبين لنا خطأ الذين ظنوا أن تقوى الله تعالى هي الشعور الكامن في القلب الذي لا يتدخل في شؤون الجوارح فتجد صاحب هذا الظن يقصر في الطاعات ويغامر في أنواع من المنكرات ثم إذا قلت له: اتق الله دارت حماليق عينه وفار الدم في عروقه وقال لك بلسان الواثق ضارباً بيده على صدره حتى إنك لتخشى على أضلاعه من شدة الضرب: التقوى هاهنا ! التقوى هاهنا ! التقوى هاهنا !
الله أكبر ما أخطر انقلاب المفاهيم وتبدل الأفكار إنها والله كلمة حق أريد بها باطل فهل يصح عند أولي العقول والأبصار فضلاً عن المتقين الأخيار أن يتقلب العبد بين ترك الواجبات وانتهاك المحرمات ثم يكون ممن امتحن الله قلوبهم للتقوى ؟ لا والله وألف لا. وما أراد النبي r كما قال: التقوى هاهنا وأشار إلى صدره ما يزعمه أصحاب هذا الفهم المغلوط والدين المنقوص. إنما أراد r أن يبين أن أصل التقوى في القلب كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾(
[10]) فإن مافي القوب من خير أو شر لابد وأن ينكشف عن الستر إما في الدنيا أو يوم تبلى السرائر
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
أيها المؤمنون إن تقوى الله سبحانه وتعالى إذا استقرت في القلوب وارتسمت بها الأقوال والأعمال والأحوال أثمرت وأعقبت من الفضائل والفوائد والثمار شيئاً كثيراً به تصلح الدنيا والآخرة دار القرار وما يشحذهم أولي الأبصار إلى صراط العزيز الغفار.
أيها المؤمنون إن من فوائد التقوى وثمارها أنها سبب لتيسير العسير قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾(
[11]) وتقوى الله تعالى سبب لتفريج الكروب وإيجاد المخارج والحلول عند نزول الخطوب وهي سبب لفتح سبل الرزق قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾(
[12]).
الخطبة الثانية
الحمد لله ولي الصالحين والصلاة على إمام المتقين نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين أما بعد أيها المؤمنون إن تقوى الله تعالى هي خير ما يقدم به العبد على الله يوم العرض ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾(
[13]) هذه بعض فوائد التقوى وثمارها في هذه الدنيا أما يوم المعاد ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ` إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾(
[14]) فإن تقوى الله تعالى أعظم جنة يحتمي بها العبد في ذلك اليوم. قال ابن القيم رحمه الله:
وخذ من تقى الرحمن أعظم جنة ليوم به تبدو عياناً جهنم
ويأتي إله العـــالمين لوعده فيفصل ما بين العباد ويحكمُ
فتقوى الله سبب لنجاة العبد من الهلاك والعذاب والسوء قال تعالى: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(
[15]) وهي سبب لتكفير السيئات ورفع الدرجات والفوز بالغرف والجنات قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً﴾(
[16]) وقال تعالى: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾(
[17]). فاتقوا الله عباد الله فإن تقوى الله تعالى هي أكرم ما أسررتم وأعظم ما ادخرتم وأزين ما أظهرتم.
وقال تعالى: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾(
[18]). والآيات في بيان جميل عاقبة المتقين كثيرة عديدة وكفى بقوله: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين﴾(
[19]) على ذلك دليلاً فتزودوا أيها المؤمنون من تقوى الله تعالى فإنها خير زاد كما قال الله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾(
[20]) ولا نجاة إلا بهذا الزاد
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت يوم الحشر من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم تُرصد كما كان أرصدا
فاتقوا الله عباد الله وتواصوا بينكم بذلك فإن هذا هو سبيل المتقدمين من السلف الصالحين المتقين كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ابنه عبد الله: من عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن عمر أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل فإنه من اتقاه وقاه ومن أقرضه جزاه ومن شكره زاده واجعل التقوى نُصب عينيك وجلاءَ قلبِك. وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى رجل من أصحابه: أوصيك بتقوى الله فإنها أكرم ما أسررت وأزين ما أظهرت وأفضل ما ادخرت أعاننا الله وإياك عليها وأوجب لنا ولك ثوابها.
ولما كان هذا هو سبيل الأولين بارك الله في أعمالهم وأقوالهم وأرزاقهم وفتح عليهم من الخيرات مالم يكن منهم على بال فكانوا خير أمة أخرجت للناس في دينهم ودنياهم. وكل من أراد العز في الدين والدنيا والبركة في الرزق والوقت والعمل فعليه بتقوى الله تعالى فإنها من أعظم ما استنزلت به الخيرات واستدفعت المكروهات.
قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾([21]).
([1]) النساء: 131.
([2]) الشعراء: 106.
([3]) الشعراء: 124.
([4]) الشعراء: 161.
([5]) الشعراء: 177.
([6]) الأحزاب: 1.
([7]) أخرجه أحمد من حديث معاذ بن جبل برقم 21554 وهو عند الترمذي في البر والصلة من حديث أبي ذر برقم 1987.
([8]) الحجر: 99.
([9]) آل عمران: 110.
([10]) الحج: 32.
([11]) الطلاق: 4.
([12]) الطلاق: 2-3.
([13]) البقرة: 197.
([14]) الشعراء: 88- 89.
([15]) الزمر: 61.
([16]) الطلاق: 5.
([17]) الزمر: 20.
([18]) آل عمران: 15.
([19]) القصص: 83.
([20]) البقرة: 197.